"أي تشابه بين أحداث هذه القصة وبين ما حدث فعلاً في أحد بيوت دوما في دمشق الشام في الخامس عشر من شهر أيلول /سبتمبر عام 2011 مقصود للغاية ! "
1
(جاني دياب بالمنام، لابس قميص سماوي مقلم بخطوط ناعمة. كتيييرلابقلو القميص. قال لي: "شلونا ست الحبايب؟. قبل ما يموت كان إذا بدو مني شي يبدا بهالسؤال. وكنت قلو: "قول شو بدك دغري.. بلا زعبرة" هالمرة قلتلو:"اطلب وتمنى حبيبي" طلع فيني، وابتسم هديك الابتسامة اللي بتسبي القلب. وقلي: "حابب آكل صحن فتوش من تحت إيديكي الحلوين!" وغاب. اليوم الصبح تطلعت بالصورة وقلتلو: نازلة جيب عدة الفتوش. رجعت من السوق وقلت: ما إلي غير أم سامي. أحكيلها المنام وأعزمها ع الفتوش).
2
بدأت المرأتان بإعداد الفتوش للشاب الذي مات منذ شهرين. وفي مساء ذلك اليوم كتبت أم سامي على حائطها الفيسبوكي:"أفكر بالضيوف الكثيرين الذين نعد لهم موائد وأغاني ورقصات قلب ولكنهم لا يأتون، بل يؤكدون غيابهم القاسي. تذكرت اليوم ملامح القصائد التي قرأتها عن الغياب والحضور، ثم انهمكت في إعداد الفتوش لدياب الذي لم ألتق به. أعرف كيف قتل، وأعرف ملامحه من خلال صورتين إحداهما معلقة على حائط في بيته، والثانية يحتفظ بها ابني سامي.
3
سمت بكرها سامي تيمناً بأخيها الذي نقل إلى سجن تدمر الصحراوي في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، تخيلت مراراً سامي الكبير وهو يرفع سامي الصغير عن الأرض، ويأخذه في جولة في الحارة، وفي عام 1998 (بعد مضي أربعة عشر عاماً وأربعة أشهر وثلاثة أيام على اعتقال سامي الكبير) جاء من يمحو أي أمل بقوله: "العمر إلكن" ... مات سامي بلا جنازة ولا كفن ولا قبر ولا تاريخ محدد ولا شاهدة ولا نظرة وداع . تجمعوا يومها في مجلس عزاء صغير، ساده النشيج . بدا سامي لها وكأنه تحول إلى بخار أزرق سماوي وصار جزءاً من زرقة السماء فوق بيتها. وعندما استشهد دياب لم تكن تعرفه ولم تكن تعرف أمه، ذهبت مع صديقتها لتقديم واجب العزاء لأم الشهيد، بدا لها وجه دياب قريباً من وجه سامي، تولت الترحيب بالنساء، صبت القهوة لهن ، غنت بصوت تجمع فيه حنان الدنيا، طلبت من النساء أن يزغردن للعريس، تحدثت عن بطولته لأنه لم يمتثل لأمر الركوع لصورة الحاكم. زغردت ... زغردت النساء معها، بدا لهن الله نفسه منشغلاً عن الدنيا كلها وهو يصغي لزغاريد الأرواح المجروحة ، وبدت الزغاريد صلاة صادقة تغطي الدنيا. اعتقدت النساء الوافدات من مناطق مختلفة من دمشق، واللواتي يساهمن في تشييع الشباب الذين يقتلهم الرصاص أن أم سامي أخت الشهيد، وكثيرات قلن لأم دياب مشيرات إلى أم سامي: "البركة بأختو، أخت الرجال"!
4
"شوفي يا أم سامي... إنتي اللي علمتيني إنو ابني عمل اللي بيعملوه الأبطال، وإنتي اللي زفيتيه ع السما ...الناس كانو عم يقبروه وإنتي كنتي عم تحييه،أنا حبيتك ... إنتي أختي ... أنا مالي أخت من أمي وأبي" ... حدثتها عن طفولة دياب ومراهقته، عن قمصانه، وسهراته مع أصدقائه، عن ...وعن ...أشياء كثيرة. أتمت المرأتان إعداد طبق الفتوش، وضعتاه على المائدة، كانتا تسترقان النظر إلى الصورة المعلقة على الحائط وتأكلان. قالت أم سامي: يسلمو إيديكي ... كتير طيب هالفتوش. ردت أم دياب: "مجاري الهنا.... ألف صحة. شوفي دياب ما أكل . وقت كان عايش كان كتير يعملا فيني، يطلب أكلة، ولما إعمّلو ياها دور عليه وما لاقيه"
صمتت المرأتان. كان وجه الغائب يحتل الفضاء.
نظرت أم دياب إلى أم سامي وقالت بارتباك تلميذة: "أم سامي... أنت تعلمتي بالمدارس ، أنا ما تعلمت. بدي أسألك، خديني على قد عقلي وجاوبيني: بالجنّه فيه فتوش؟ "
قصة: جمال سعيد
دمشق تشرين الأول 2011